تائهون في عرض البحر.. ناجون من الروهينغا يروون للمفوضية قصصهم المروعة
تخلّى المهربون عن 5000 شخص في بحر أندمان فيما تحدث الناجون إلى المفوضية عن محنتهم المرعبة.
في شهر مايو/أيار من هذا العام، وجد ما لا يقل عن 5000 لاجئ ومهاجر من ميانمار وبنغلاديش أنفسهم وقد تقطعت بهم السبل في عرض البحر، بعد أن تخلى عنهم جميعاً في خليج البنغال وبحر أندمان، المهربون وطواقم السفن الذين كانوا قد تعهدوا بنقلهم إلى ماليزيا.
رفضت الحكومات في المنطقة بدايةً إجراء مهام البحث والإنقاذ، أو السماح لأي من الركاب بالنزول إلى أراضيها. وسرعان ما تسمر المشاهدون في جميع أنحاء العالم خوفاً أمام صور الرجال والنساء والأطفال الهزلى المتكئين على جوانب القوارب، يستجدون ما يأكلونه في عرض البحر.
ومنذ يناير/كانون الثاني 2014، يُقدَّر أن يكون أكثر من 94,000 شخص قد غادروا على متن القوارب من خليج البنغال على طول هذا الطريق. ويُعتقد أن نصفهم من الروهينغا من ولاية راخين في غرب ميانمار. واستناداً إلى أكثر من 1,000 مقابلة مع أشخاص من الروهينغا قاموا بهذه الرحلة، تقدر المفوضية أن من أصل كل 1,000 راكب على متن قوارب المهربين، لم تطأ أقدام 11 أو 12 شخصاً اليابسة أبداً؛ وذلك نتيجة تعرضهم للضرب حتى الموت من قبل الطاقم، أو وفاتهم بسبب الجوع أو الجفاف أو المرض. وقضى آخرون لا يعدون ولا يحصون في مخيمات الأدغال في تايلاند وماليزيا حيث احتجزهم المهربون للحصول على فدية، وحيث تم اكتشاف بقايا أكثر من 200 شخص في الأشهر الأخيرة.
تحدث الناجون من هذه المأساة في مايو/أيار عن ذكرياتهم المؤرقة حول طريقة تهريبهم وكيف تقطعت بهم السبل في البحر. أسماء القوارب الثلاثة غير معروفة، ولكنْ لتمييز أحدها عن الآخر، نشير إليها هنا باسم ألفا وبرافو وتشارلي.
ألفا
كانت الشمس قد بدأت تغيب خلف الأفق في 14 مايو/أيَّار 2015، عندما سقطت الشابة سيتارا بيغوم سريعاً في الهواء بالقرب من القارب الرمادي الداكن. انزلق جسمها الهزيل بالنسبة لفتاة من الروهنغا في الحادية عشرة، واختفى في الماء. عشرات الجثث الأُخرى تساقطت حولها في مضيق ملقا، على بعد حوالي 100 كيلومتر شرق لانغسا في إندونيسيا.
وتتذكر والدتها كلثومة واصفةً الحادثة بعد شهرين وتقول: "عمت الفوضى، وساد الذعر. لم أنتبه لها".
غابت سيتارا عن نظر كلثومة بينما كانت الأخيرة تصارع لإنقاذ ابنيها الشابين، وقد انتزعت أكبرهما من براثن عصابة من الرجال البنغلاديشيين؛ وقالت: "كانوا يحاولون جرّه إلى داخل القارب لذبحه".
بدأت إراقة الدماء في وقت سابق من بعد ظهر ذلك اليوم. ففي أعماق هيكل القارب، انحشر مئات الرجال والفتيان البنغلادشيين والروهنغيين جنباً إلى جنب، وبعضهم لأشهر عدة، وعندما تخلى الطاقم عن السفينة محملاً معه معظم ما تبقى من المؤن، بلغت التوترات أقصاها.
وعندما بدا للرجال البنغلادشيين أن الرجال الروهينغا يحتفظون بما تبقى من الماء لأنفسهم، صرخوا غاضبين: "إذا متنا، ستموتون جميعاً أيضاً". وتناولت مجموعة من الرجال ما تُرك من الأدوات على متن السفينة- من قضبان حديد وعتلات وفؤوس- ولوحوا بها في مخزن السفينة الضيق.
وامتد القتال سريعاً إلى السطح الرئيسي حيث انتزع الركاب الألواح الخشبية لاستخدامها كأدوات تعويم أو هراوات. وتلقى أحد المراهقين الروهنغا الذي فر من منزله في مونغدو، ميانمار، بعد تعرضه للضرب من قِبَل السلطات المحلية، ضربة على وجهه بلوح خشبي، فانشق حاجبه وخده. وحين لم يجد مكاناً يختبئ فيه، قفز عن سطح السفينة وضرب جنبه فيها وهو يسقط في مياه البحر، ما ألهب جراحه مجدداً.
ولم يَطل الوقت حتى بدأ القارب الذي ثُقِب هيكله بالغرق. وبدأت النساء والأطفال، وجميعهم من الروهينغا وقد نجوا من القتال، يفكرون بالقفز في الماء كذلك. صعد أبناء عموم ثلاثة إلى حافة القارب، وبكوا وهم يتعانقون.
صاح أكبرهم: "أنقذوا حياتكما. إن شاء الله، سنرى بعضنا مجدداً".
وقفزوا مع أكثر من عشر نساء كُنَّ قربهم. وإحداهن، امرأة من الروهينغا من مونغدو أملت الانضمام إلى زوجها في ماليزيا، قفزت مع ابنها البالغ من العمر عامين. وفي المياه، عجزت عن السباحة، ففقدته.
كان عبد الجليل، وهو رجل طويل القامة، عريض الكتفين، في السابعة والثلاثين من العمر، من كيوكتاو في ميانمار، يركض إلى حيث تجمعت النساء حين رأى، من على حافة السفينة، امرأة تغرق. كانت قد قفزت إلى المياه بعد أن رُمِي زوجها عن متن السفينة. وكان أطفالهما الأربعة، ولم يتجاوز أي منهم العاشرة، في الماء كذلك يتخبطون للتمسك بوالدهم. لم يملك القوة للبقاء طافياً، وقد أثقله حمل أولاده وحيداً.
ولاحظ عبد الجليل أمام قدميه بضعة ألواح ضعيفة مسمرة معاً، قُصِد منها تغطية المحرك تحتها. حمل الألواح عالياً ورماها في البحر نحو الأسرة، وقفز بعد ذلك إلى الماء. لكنَّ المرأة لم تستطع التمسك بالألواح. وبعد دقائق، طفا جسدها على سطح الماء، فتشبث به ابنها الأصغر، وهو يبكي. وفيما تخبط ابنها الأكبر ياسين* في الماء، ظهر جسم آخر ضعيف قربه، وكان والد ياسين، ثم ظهر آخر، إنما أصغر بكثير: شقيقة ياسين البالغة خمسة أعوام من العمر.
على متن السفينة، ومع حلول الظلام، استمر الماء يتسرب شيئاً فشيئاً إلى هيكل السفينة. وكانت كلثومة المتشبثة بابنيها لا تزال تبحث عن ابنتها.
فكرت في نفسها وقالت سنموت جميعاً. واستمر الصراخ.
برافو
على متن برافو، نفذت كل الحصص الغذائية بحلول 9 مايو/أيَّار، بعد أن توقفت السفينة في مضيق ملقا، على بعد حوالي 200 كيلومتر شمال شرق لوكسوماوي، في إندونيسيا. وكان قدرا الطهو الضخمان على متن السفينة فارغين. طوال أيام، كانت وجبات الركاب أقل حتى من مغرفة الأرز والفلفل المجفف المعتادة، لذا كان مستغرباً وصول طعامهم في وقت مبكر من يوم السبت، مع أرز إضافي وماء.
أخيراً، بعد مئة يوم في البحر، قد يتوجهون في النهاية إلى ماليزيا.
لم تأكل ريحانة* بهذا القدر منذ زواجها قبل أربعة أشهر، في منزل حمويها في شمال مونغدو. العريس الذي يعيش في بينانغ، في ماليزيا، لم يحضر الحفل، لكنّه تواصل مع عروسه عبر دردشة على الفيديو في اليوم التالي. تحدثا عبر الهاتف سابقاً، ولكنْ كان ذلك التواصل على الإنترنت أقرب لقاء شخصي بينهما. سُرَّت ريحانة لأنَّ والديه لم يطلبا مهراً، ولأن زوجها كان على استعداد ليدفع لها ثمن الرحلة لتنضم إليه في ماليزيا.
تتذكر قائلةً: "كنت سعيدة بشأن الأسرة والرجل".
وحين تذكرت الدردشة على الفيديو، ضحكت ريحانة كمراهقة، لأنَّها كذلك. ريحانة في الخامسة عشرة. والخفة، وحتى الغبطة، التي تروي بها قصة زواجها لا يمكن أن تحجب حقيقة أنها قاصرة غير مصحوبة من ذويها ومخطوبة لشخص لم تلتقه قط، لرجل دفع لها ليتم تهريبها في رحلة بحرية قاتلة.
يقول أحد مستشاري المفوضية في مجال حماية الأطفال، وقد أجرى بحثاً في قضية الزواج المبكر بين اللاجئين الروهينغا في ماليزيا بأن "العرائس من الأطفال هن أطفال في خطر". وفي ماليزيا، حددت المفوضية أكثر من 120 عروساً من الأطفال من الروهينغا، بعضهن لم يتجاوزن الحادية عشرة. فعلياً، يحمل كل قارب تهريب في تلك المياه شابات وفتيات في طريقهن للقاء أزواجهن الذين تزوجوهم عبر الهاتف، مثل ريحانة.
وعلى متن برافو، وبعد ساعات من أوَّل وجبة كاملة تناولوها منذ أشهر، سُحِقَت آمال الركاب الـ578 عندما أدلى القبطان بإعلان محبط. لقد أوعِز إليه بالتخلي عن القارب- "وترككم ينجرفون في البحر". في الظلام، دلَّهم على الطريق التي توجههم نحو الغرب، وغادر في قارب سريع أتى ليقل الطاقم.
وأكمل برافو مساره. وعند الفجر، كان قد اقترب من اليابسة بما يكفي حتى استطاع الركاب رؤية الأشجار على طول الشاطئ الإندونيسي. بعد ذلك، وعلى بعد أقل من مئة متر، تعطَّل المحرك. وعندما لم تقترب أي سفينة من السفن الصغيرة القريبة منهم لنجدتهم، قفز الرجال في المياه الضحلة وبدأوا يسبحون.
أما أولئك الذين لا يستطيعون السباحة- بمن فيهم الكثير من النساء والأطفال وبعض الرجال الذين يعانون من سوء التغذية إلى حد الشلل- فحُمِلوا ووضعوا بعناية في قدري الطهو الفارغين اللذين كانا يتمايلان في الماء. ومدّ أحد الرجال حبلاً من السفينة إلى المياه الضحلة قرب الشاطئ، ما سمح لريحانة وآخرين بأن يطفوا ببطء نحو اليابسة. عندما وقفت أخيراً على اليابسة، كانت تلك المرة الأولى منذ أربعة أشهر.
لكنَّ ما وصلت إليه لم يأتِ على حجم آمالها، ولو قليلاً.
وتقول ريحانة من المأوى المؤقت حيث تقيم جنوب غرب لوكسوماوي، في جزيرة سومطرة الإندونيسية:"أفكر فيما إذا كان مستقبلي سيكون آمناً مع زوجي. وهل تكون حياتنا هادئة وسعيدة؟".
تشارلي
وقف رشيد* على حافة سطح السفينة، مستعداً للقفز في بحر أندامان. ربط إلى ظهره صفيحة فارغة لتساعده على البقاء عائماً. كان طاقم تشارلي قد تخلى عن القارب قبل بضعة أيَّام، لذلك قرر رشيد وبعض الرجال الآخرين السباحة طلباً للمساعدة نيابة عن رفاقهم الركاب الـ400، وكان ما لا يقل عن 8 ركاب قد توفوا حتى ذاك الوقت. كان الفلفل الحار كل ما تبقى على متن القارب لمد السباحين بجرعة من الطاقة. لا أرز، ولا قطرة ماء. لذلك، طحنوا الفلفل وابتلعوه وقفزوا في البحر.
ويقول رشيد: "قال لنا معظم الأشخاص ألاَّ نقوم بذلك." لكننا كنا شبه أموات. إن لم نقضِ في البحر، فسنلقى حتفنا على متن القارب.
بعد السباحة لأكثر من ساعة، بدا الساحل أبعد مما تصوروا، وحتى القارب تشارلي غاب عن أنظارهم. لذلك، وعندما رصدت المجموعة قارب صيد في اتجاه آخر، غيرت مسارها. وبعد نصف ساعة، سحبهم الصيادون على متن قاربهم وقدموا لهم الطعام والماء.
أبصر الصيادون تشارلي عبر مناظيرهم، وأعادوا رشيد والسباحين الآخرين إليه وقدموا حفنة من السمك إلى الركاب الآخرين. ويتذكر رشيد أن طائرة حلقت فوقهم ولاحقاً في ذلك اليوم أتى قاربان للبحرية وقطرا تشارلي في الليل.
وفي اليوم التالي، أعلن نائب وزير الداخلية الماليزي، وان الجنيدي جعفر، أن البحرية الماليزية وفرت الماء والغذاء لقارب يقل حوالي 300 راكب قرب لانغكاوي في الليلة الماضية وحولت مساره - وهذا هو تشارلي- إضافةً إلى قارب آخر قرب بينانغ، على الأرجح أن يكون ألفا. وسأل مراسلاً من وكالة أسوشيتد برس قائلاً: "ماذا تتوقعون منا أن نفعل؟ كنا لطفاء جداً مع الأشخاص الذين اقتحموا حدودنا. لقد عاملناهم بإنسانية، ولكنْ لا يمكنهم أن يتدفقوا إلى شواطئنا بهذه الطريقة".
وصباحًا، تُرِك تشارلي لينجرف مجدداً. وجده في 14 مايو/أيَّار بعض الصحفيين والبحرية التايلاندية قرب منتجع الجزيرة التايلاندية كوه ليبي، حيث زودته السلطات بالمؤن قبل أن تفيد التقارير أنه قُطِر وسُحِب ذهاباً وإياباً عبر مضيق ملقا. وقال الركاب للمفوضية إن السلطات الماليزية واكبت تشارلي إلى ما يعتقدون أنه أراضٍ بحرية أندونيسية. أمضوا ليلةً أُخرى هناك دون أن يعرفوا أين هم، أو كيف سيجدون وجبتهم التالية.
وخطرت فكرة لمجموعة من الرجال على متن القارب. فصنعوا شراعاً من القماش المشمع واستخدموا الألواح الخشبية كمجاديف. عندما رأوا سفينة شحن كبيرة، لوحوا بقمصانهم للفت انتباهها. ونجح الأمر. فقد أرسلت سفينة الشحن ثلاثة زوارق صغيرة محملة بالماء والمعكرونة، وتبعتها قوارب الصيد. ولكنَّ الصيادين قالوا إنه يتعين الانتظار إلى أن يحل الليل لإيصال تشارلي إلى الشاطئ.
وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي، في 20 مايو/أيار، أنقذت تشارلي قافلة من قوارب الصيد قرب جولوك، في إندونيسيا. وفي الجانب الآخر من مضيق ملقا، في بوتراجايا، اجتمع وزراء خارجية ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند لمناقشة ما وصفوه بـ"أزمة تدفق المهاجرين غير النظاميين". وفي نهاية الاجتماع، وافقت ماليزيا وإندونيسيا على "تقديم المساعدة الإنسانية للمهاجرين غير النظاميين الذين يقدر عددهم بـ7000 شخص والذين ما زالوا في عرض البحر وتوفير المأوى المؤقت لهم"، إلى أن يعيد المجتمع الدولي توطينهم أو يعيدهم إلى وطنهم في غضون عام. وانضم القادمون الجدد إلى أكثر من 99,000 لاجئ موجودين في ماليزيا وإندونيسيا.
وقبل خمسة أيام، وفي الساعات التي تلت اندلاع القتال على متن القارب ألفا، أنقذ الصيادون 820 راكباً من ركابه قرب لانغسا، في إندونيسيا. قال العديد من الناجين إنهم يعتقدون أن عشرات الأشخاص ماتوا سواء من القتال أو الغرق. عرف بعضهم شخصياً فرداً رأوه يغرق، ولم يعثروا عليه لاحقاً. وقال أحد الرجال الذين سبحوا سعياً إلى الإنقاذ، وعاد مع قارب صيد لنقل أولئك الذين ظلوا على متن ألفا، إنه رأى جثث سبعة رجال مخبأة في غرفة المحركات. وقضت شهيرة بيبي ابنة الأعوام الثلاثة بجراء إصابتها بالكزاز بعد خمسة أيام من وصولها إلى إندونيسيا. ولم تجد المرأة التي قفزت مع ابنها البالغ من العمر عامين، ولدها قط. ورأت امرأة أُخرى والديها يُضربان حتى الموت. وقال عدة ناجين إنهم تعرفوا على جثث والدي ياسين وشقيقته. ويضاف هذا العدد إلى 14 شخصاً على الأقل يُعتقد أنهم ما كانوا ليموتوا لو أُنزلوا قبل اندلاع القتال.
وبعد أسبوع من عملية الإنقاذ، وفي مأوى مؤقت في لانغسا، ظلت كلثومة تبحث عن ابنتها سيتارا. بعد أن أنقذت ابنيها وحالت دون جرهما إلى داخل القارب، نظرت كلثومة إلى كل الجثث في الماء، وتعتقد أنها رأت رجلاً يُنقذ سيتارا. أتى قارب صيد لنجدتهم. وعندما تمّ لاحقاً إنقاذ كلثومة نفسها مباشرةً من ألفا، كانت على ثقة أنها رأت سيتارا مجدداً، تلوِّح لها من قارب آخر. صاحت كلثومة عبر المياه "سيتارا، لا تقلقي".
ولكنْ في المأوى في لانغسا حيث نُقِل حوالي 700 شخص من الناجين من ألفا، لم يُعثَر على سيتارا في أي مكان. وتتذكر كلثومة قائلةً: "كنت أبحث عنها كالمجنونة. لم يعرف أحد عنها شيئاً".
وجد موظفو المفوضية سيتارا بعد عدة أيام في مأوى آخر في لانغسا، حيث نُقلت مجموعة أصغر من الناجين من ألفا. وبعد إبلاغ السلطات الأندونيسية، تمَّ جمع سيتارا بوالدتها وأخويها أوائل يوليو/تموز.
وفي مأوى مؤقت آخر في ميدان، عاصمة مقاطعة سومطرة الشمالية، قال عبد الجليل، الرجل الذي رمى الألواح الخشبية من ألفا إلى العائلة التي كانت تغرق، للمفوضية إنه كان يعمل كسائق في كيوكتو، في ميانمار. لديه أربع بنات وابنان، وكلما شرع في الحديث عنهم، بكى.
ويُعدّ عبد الجليل البالغ من العمر 37 عاماً أكبر سناً من 93 في المئة من الركاب الروهنغا الذكور الذين قابلتهم المفوضية- وثلثاهم في الحادية والعشرين أو أقل. يصعد الرجال من أمثاله على متن قوارب المهربين ليس لتحقيق مستقبلهم كما يفعل الركاب الأصغر سناً، وإنما ليؤمنوا مستقبل أولادهم.
ويوضح عبد الجليل أنه لم يكن قادرًا على مزاولة مهنته كسائق سيارة أجرة في المجتمعات من غير الروهنغا منذ اندلاع أعمال العنف في العام 2012. وبعد معاناته وفشله في توفير لقمة العيش لأولاده، تصوَّر أنه يستطيع أن يساعدهم أكثر من ماليزيا. قال: "لا يملكون شيئاً،" وبكى مجدداً.
ابن عبد الجليل الثاني في العاشرة، بعمر ياسين، الصبي الذي طافت جثث والديه وشقيقته على سطح الماء بعد أن كانوا على متن ألفا. وبعد إنقاذ ألفا، سجلت المفوضية عمة ياسين، وشقيقه الأصغر وأخته الأُخرى في لانغسا. اعتقد جميعهم أن ياسين مات أيضاً.
وفي 28 مايو/أيَّار، سجلت المفوضية مجموعة أخيرة من الروهنغا أُنقذت أيضاً من القارب ألفا، وتم إيواؤها في ميدان، عاصمة مقاطعة سومطرة الشمالية. كان الشخص الثاني عشر الذي تم تسجيله في ذلك اليوم فتى صغيراً قال إنه في العاشرة، وإن جميع أفراد أسرته- والداه، شقيقه وشقيقتاه- غرقوا. كان ياسين. في المياه، جثم فوق الألواح الخشبية التي رماها عبد الجليل. وسبح عمه ورجلان آخران من الروهنغا حول الألواح التي شكلت عوامة ووجهوها طوال ساعات، إلى أن وجدهم قارب صيد وأنقذهم.
تناقل موظفو المفوضية صور ياسين وإخوته لتأكيد هوياتهم. شقيقة ياسين التي خلت نظراتها من أي معنى لأيام منذ وفاة والديها، شعرت بسعادة غامرة عند رؤية ياسين. ذُكِر في أحد النصوص أنها "كانت سعيدة جداً وهتفت بهايا، بهايا؛ أي أخي، أخي.
الحصيلة
إنها تمطر في ولاية راخين. دمرت الفيضانات المنطقة، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص وتشريد عشرات الآلاف الآخرين. أمس أمطرت، واليوم هطل المطر، وغداً ستُمطر. ستُمطر كل يوم، لساعات، حتى سبتمبر/أيلول. وستهدأ بعدها الرياح والمياه، وطريق البحر الذي يستغرق عبوره سبعة أيام للوصول إلى تايلاند وماليزيا سيُفتح مجدداً، على مصراعيه، كخليج البنغال.
وعلى الرغم من كل شيء- التدقيق المتزايد من قِبَل السلطات، والتغطية الإعلامية الواسعة، والصور المؤرقة للأشخاص الجائعين المحاصرين في البحر- لم يتغيّر الحال إلاّ قليلاً. فعدد الروهنغا والبنغلادشيين الذين يغادرون أوطانهم على متن القوارب انخفض بشكل كبير في مايو/أيَّار، بعد ظهور الأزمة، ولكنْ ذلك يحدث دائماً في مايو/أيَّار، عندما تبدأ الأمطار. وفي كل عام، بعد فترة الهدوء خلال هذه الأشهر الموسمية، ترتفع حركة المرور البحرية في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأوَّل. وفي أكتوبر/تشرين الأوَّل الماضي، ركب ما يقدر بـ13,000 شخص على متن قوارب المهربين في خليج البنغال، وهو أعلى رقم سُجِّل في شهر واحد.
وفي أواخر يونيو/حزيران، التقت المفوضية قادة مجتمع الروهينغا في ماليزيا لمعرفة كيف تأثرت حركة القوارب، إن حدث ذلك، بكل الاهتمام الذي حظيت به. كان هناك إجماع عام أنه على الرغم من أن تحركات السفن توقفت مؤقتاً، إلا أنه لا مفر من عودتها، ربما اعتباراً من سبتمبر/أيلول المقبل. وسمع بضعة أشخاص تم الاتصال بهم، أن المهربين بدأوا يحشدون ركاباً جدداً في مونغدو.
ولكنْ مجرد الاستعلام عن هذه التحركات لا يكفي؛ كانت معروفة منذ أعوام، وما زال المئات يموتون كل عام. عام 2014، قضى ما يُقدَّر بحوالي 750 شخصاً حاولوا القيام بالرحلة، في مكان ما في خليج البنغال أو بحر أندمان، يضاف إليهم 350 شخصاً آخرين حتى اليوم في العام 2015، ومن بينهم 70 شخصاً على الأقل في القوارب التي سارت بلا هدى في مايو/أيَّار.
ثمة أمر آخر لم يتغير كذلك. في المأوى في ميدان، وبعد أشهر أمضاها على متن سفينة مزرية وبعد ما شاهده في البحر من جثث، يبدو ياسين بصحة جيدة ومتوازناً ونشيطاً ومنفتحاً. ويراقبه عمه والرجلان الآخران الذين نقلوه على الألواح العائمة عن كثب، وكذلك عبد الجليل. لكنَّ ياسين وشقيقه وشقيقته الأصغر سناً يبقون أيتاماً. والصورة الأخيرة التي يحملونها عن والديهم هي لجثتيهما تطفوان بجانب القارب ألفا بينما كان يغرق. وذلك الأمر لن يتغير أبداً.
وفي باحة المأوى، يسمع عم ياسين محادثة عمّا إذا كان الناس سيعاودون ركوب السفن مع اقتراب سبتمبر/أيلول. وبينما سأل بعض الرجال لمَ قد يرغب أي شخص في معاناة ما عانوه، تدخّل في النقاش.
قال: "طالما أن القوارب تبحر، لن يكف الناس عن ركوبها".
*تمّ تغيير الأسماء لأسباب تتعلق بالحماية.
أنتجت هذا المقال وحدة رصد التحركات البحرية الإقليمية التابعة للمفوضية في بانكوك، تايلاند. منذ يونيو/حزيران من العام 2014، أجرت الوحدة مقابلات مع أكثر من 1000 لاجئ ومهاجر سافروا بطريقة غير نظامية عن طريق البحر في جنوب شرق آسيا، بمن فيهم أكثر من 600 شخص كانوا على متن القوارب التي تركها المهربون في مايو/أيَّار العام 2015. ويستند هذا التقرير إلى مقابلات مع الناجين وأقاربهم، إضافةً إلى تقارير وسائل الإعلام. وكان المساهمون الرئيسون كين شوم ومحمد الحق وسارة جابين وفهمينة كريم وسو ميينت.