ناجٍ من الحرب يصوب عدسته على اللاجئين
نجا المصور الفوتوغرافي جيل دولي من انفجار في أفغانستان إلا أن إصابته سمحت لهم بالتقرب من الأشخاص الذين يصورهم.
جيل دولي يصوّر طفلين أفغانيين في ميناء ميتيليني في اليونان.
© UNHCR/Achilleas Zavallis
كان جيل دولي يسير على طول الميناء الرئيسي لجزيرة ليسفوس، في بحر إيجه، مصوراً اللاجئين الذين ينتظرون زورق العبور إلى أثينا، عندما رأى رجلاً مقعداً على كرسي متحرك فشعر بتأثر كبير.
عرّف بنفسه على أن اسمه خليل وأنه آتٍ من دير الزور في سوريا. فقد خليل ساقه عندما أسقطت القوات الموالية للحكومة قنبلة على منزله.
وقد وصل مؤخراً من تركيا إلى ليسفوس، على متن قارب مطاطي متهالك مع زوجته وأطفاله الثلاثة. وسأل دولي عن بلد أوروبي قد يوفر له ساقاً اصطناعية. وأضاف: "كم من الوقت سيمر قبل أن أتمكن من المشي مجدداً برأيك".
دولي، الذي يبلغ من العمر 44 عاماً، معتاد على هذه الأسئلة. إذ فقد المصور العالمي المشهور في المجال الإنساني ساقيه ويده اليسرى في عام 2011 بينما كان يصور القوات الأميركية في أفغانستان. كان في دورية مع فوج الفرسان الـ75 عندما داس على عبوة ناسفة. كاد الانفجار أن يقتله. واعتقد أنه لن يتمكن من التقاط الصور مجدداً.
ولكن، بعد إجراء 37 عمليةً وقضاء عام كامل في المستشفى، منه شهران أمضاهما في العناية المشددة، عاد دولي للعمل مصمماً على متابعة مشروع شخصي يُطلق عليه اسم مخلفات الحرب. ويعتبر هذا المشروع تتويجاً لعقد من الزمن أمضاه موثقاً الأثر الطويل الأمد للصراع على المجتمعات في جميع أنحاء العالم.
ودولي مكلف من قبل المفوضية حالياً بمهمة مدتها ثلاثة أشهر لتوثيق أزمة اللاجئين في أوروبا كجزء من مشروعه الأوسع نطاقاً.
يقول دولي: "تكمن الفكرة في النظر على المدى الطويل؛ في ما سيحصل للأشخاص بعد 10، 20 أو 30 عاماً من انتهاء الحرب. لاحظت قواسم مشتركة في ما كنت أراه حول العالم. لذا، أردت تنفيذ مشروع يجمع هذه المواضيع على مر العقود وفي مختلف المناطق الجغرافية".
قد تدوم ندبات الحرب الاقتصادية والنفسية والبيئية والجسدية لعقود، وتؤثر حتى على الأجيال التي ولدت بعد الصراع. وجروح دولي تجعله يشعر بشكل خاص بالقصص التي يرويها.
ويشرح دولي الذي يستعمل ساقين اصطناعيتين للمشي قائلاً: "أعيش مع إرثي من الحرب يومياً". مشيته صعبة. ولالتقاط الصور، يمسك كاميرته بيده اليمنى ويضبط العدسة بواسطة يديه اليسرى المبتورة.
حتى الآن، تم نشر عمل دولي في وسائل إعلامية معتبرة عديدة، ومن بينها فوغ وGQ وإسكواير ورولينغ ستون، وعرضت في أماكن مرموقة. وفاز بجائزة باريس في عام 2010 ومجدداً في عام 2012، وتم عرض صورته الذاتية في معرض تايلور ويسينغ في المعرض الوطني للوحات.
وصرحت ميليسا فلمينغ، كبيرة المتحدثين باسم المفوضية قائلةً بأن "جيل عرّفنا على أشخاص مخفيين خلف الأعداد. وفي غمضة عين تم تسليط الضوء عليهم واكتشافهم".
وتنشأ علاقة فوراً بين دولي واللاجئين الذين يلتقيهم يومياً. وخلال الأسابيع الثلاثة التي سافرت فيها مع دولي عبر اليونان هذا الخريف (2015)، شاهدت السيناريو نفسه يتكرر ست مرات على الأقل؛ لاجئ يقترب منه ويسأله باحترام عما حدث له، فتلتف حوله مجموعة صغيرة من الأشخاص بينما يشرح بإيجاز، ويقدّم له أحدهم مكانه ليجلس.
وعندما ينتهي، تتدفق قصصهم الخاصة؛ حرب وألم وذكريات تركوها خلفهم ممزوجة بأحلام مستقبل آمن وارتباك حول كيفية تخطي الحاضر الغامض.
أنشأت إعاقته علاقة حميمة نادرة بينه كمصور، والموضوع الذي يعمل عليه. ويشرح دولي قائلاً: "يلاحظ الناس فوراً بأنني ملتزم بإخبار قصصهم؛ فهذا يعزز الثقة. وأفضل أن أفكر في أنني أتمكن دائماً من الحصول على تلك الثقة ولكن ذلك يسرع الأمور كثيراً".
وفي وقت سابق من هذا الشهر في إيدوميني، على الجانب اليوناني من نقطة العبور الحدودية مع جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة، انضم دولي إلى مجموعة من الباكستانيين المجتمعين حول النار. علقت هذه المجموعة بشكل مفاجئ مع آلاف الأشخاص الآخرين في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن منعت دول البلقان الأشخاص من جنسيات معينة من العبور. فأخذوا يشكون له عن شعورهم بالبرد.
ابتسم دولي وقال جملةً فكاهية خاصة به استهجنت وضعه؛ هو من بُترت ثلاثة من أطرافه: "آسف، ولكنني لا أعاني من هذه المشكلة".
ومع ذلك، فإن تصوير رحلات اللاجئين عبر أوروبا ليس سهلاً.
في ليسفوس، يمشي الأشخاص الذين ينزلون من الزوارق المطاطية، على صخور مسننة ومنزلقة أولاً، ثم يتم تسجيلهم في مراكز الاستقبال المبنية على سفوح التلال حيث تتحول الممرات المليئة بالحصى إلى جداول من الوحول عندما تهطل الأمطار. وفي إيدوميني، ينام اللاجئون في خيم منصوبة في الحقول الزراعية أو على الحصى إلى جانب مسارات القطارات.
ويقوم دولي برحلة مرهقة عابراً كل ذلك. ولكنه يشعر بالتعب بعد ساعات قليلة. فالوقوف لالتقاط الصور قد يكون مرهقاً؛ وهو يشبه كل يوم بماراثون ركض مع أدوات التصوير.
ويشرح دولي قائلاً: "في معظم الأحيان أسافر بمفردي. وتخيل أنك في لاوس حالياً والأرض موحلة والأمطار تهطل وأنت تحمل جميع آلات التصوير الخاصة بك وتحاول حالياً تفريغ شريط بيد واحدة؛ إنه أمر صعب، صعب جداً".
وفي بعض الأحيان تمنعه قيوده الجسدية من التقاط الصورة من الزوايا التي يريدها.
يتابع: "لا يمكنني التفكير في ذلك لأنه يدمرني؛ لذا أركز دائماً على ما أستطيع القيام به؛ ولكنني أعتقد بأن ابتكارات كثيرة تأتي من القيود".
بعد حوالي شهر واحد في اليونان، محطات دولي التالية هي الأردن ولبنان وبلدان أوروبية عديدة حيث يتوجه اللاجئون.
وأضافت فلمينغ قائلةً: "تساعدنا صور جيل في بناء العلاقات وفي إيجاد التعاطف وفي التواصل؛ نرى في اللاجئين مسافرين يواجهون ظروفاً تسببت الأرقام بتجاهلنا لها، ونشاركهم اللحظات الحميمة الأكثر بساطةً".
بدأت مسيرة دولي كمصور عندما كان طفلاً في سومرست، إنكلترا، وحلم بالالتحاق بالجيش. كان مفتوناً بالقصص البطولية عن الجنود العائدين من ساحات القتال.
ولكن عندما كبر، أصبح يهتم أكثر بآثار الحرب وعواقبها على الجنود والمدنيين. وفي الـ18 من العمر، تعرض دولي لحادث سير وأمضى خمسة أشهر طريح الفراش. قدمت له زوجة عرابه الراحل غرضين: كاميرا OM-10 قديمة من نوع أولمبوس كان يملكها عرابه وسيرة حياة مصور الحرب دون ماكولين.
تعلّم دولي نفسه التصوير بينما كان طريح الفراش. وقد ظهّر الأفلام في غرفة سوداء بناها في الحمام في منزل والديه.
وتلا ذلك عشرة أعوام تقريباً من النجاح كمصور أزياء وحفلات موسيقية. كان دولي يصور نجوم عالم الروك أند رول كأواسيس وماريلين مانسون وليني كرافيتز؛ وقد نُشرت صوره في مجلات GQ وإسكواير وفوغ.
ولكن، وفي أواخر العقد الثاني من عمره، غرق دولي في اكتئاب عميق فشعر بأن عمله سطحي وبأنه بات يتحكم به. وفي أحد الأيام - ومن دون أن يعرف السبب-حطم كاميراته وأحرق كافة الصور السالبة. باع شقته في لندن وانتقل إلى هيستينغز على الساحل الجنوبي لإنكلترا للعمل كنادل.
هناك، التقى بعائلة لها ابن يدعى نيك، يعاني من التوحد الحاد ويحتاج للرعاية على مدار الساعة. بدأت علاقة دولي بنيك كصديق وسرعان ما تولى رعايته الصحية بصورة دائمة.
ويقول دولي: "للمرة الأولى في حياتي شعرت بأنني أستطيع أن أؤثر بشكل إيجابي مباشر على شخص آخر."
ألهم العيش مع نيك أيضاً دولي على استعمال الكاميرا مجدداً، لكن هذه المرة لتوثيق حياة نيك اليومية. كان نيك يؤذي نفسه أحياناً؛ فيضرب رأسه حتى يبدأ بالنزف. وساعد تصوير دولي لإصابات نيك على إخبار قصته، وحصل نيك على الدعم المتخصص الذي يحتاج إليه.
أظهرت هذه التجربة لدولي قوة التصوير وإعطاء صوت للذين لا صوت لهم. وتوجه إلى أنغولا، وبدأ أعواماً من التنقل بين بنغلادش وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان ولبنان وأماكن أخرى.
في وقت سابق من هذا العام، دعته المفوضية إلى توثيق أزمة اللاجئين في أوروبا.
ويقول دولي بأن "ما حصل هو أهم شيء في حياته المهنية. فالكثير من القصص التي قمت بتغطيتها على مر الأعوام تلاقت هنا. وتشكل تلك صدمة للناس. فالناس الذين نسمع قصصهم في الأخبار في أفغانستان وليبيا وسوريا والعراق، أصبحوا يقفون فجأةً على أبوابنا طالبين مساعدتنا".
وفي وقت سابق من هذا العام، وبينما كان دولي يصور اللاجئين الواصلين إلى شواطئ ليسفوس، تعرف شخص من أفغانستان على دولي بعد أن رآه في الفيلم الوثائقي على القناة 4 بعنوان "المشي جريحاً، العودة إلى الخطوط الأمامية"، والذي يروي قصة عودة دولي إلى أفغانستان لتوثيق أثر الحرب على المدنيين.
ويقول دولي ضاحكاً: "كان يلوح لي وكأنه يعرفني، ثم نزل من القارب وقال "أنت المصور الذي بُترت ساقاه! بدا وكأن عالمي بأسره ينهار أمام عيني".
مخلفات الحرب سيكون مشروعاً على مدى عامين، يغطي كل شيء من التلوث إلى دمار الأرض بسبب المعدات الحربية غير المنفجرة والحرب الكيماوية وصولاً إلى الآثار الجسدية والنفسية والاجتماعية للحرب على الضحايا وعائلاتهم. وحتى الآن، صوّر دولي ضحايا الحرب في لبنان ولاوس وفيتنام وغزة وكمبوديا إضافةً إلى أوروبا.
ويقول: "عندما نتحدث عن الحرب، يجب أن يدور الموضوع حول الآثار بقدر ما يتناول التفاصيل المتعلقة مثلاً بمن كان يقاتل ومتى، فقد أُصيب أكثر من 120,000 شخص بسبب الذخائر غير المنفجرة في فيتنام خلال الأعوام الـ40 الماضية. ولا أحد يتكلم عن هذا الموضوع".
للمشروع، يقوم دولي بتصوير فيلم 35 ملم متوسط النسق؛ وتمنح هذه التقنية صوره طابعاً أبدياً، كما لو أن المشاهد من أزمة اللاجئين الحالية قد التُقطت منذ قرن من الزمن. وتعتبر الصور دليلاً على أن التاريخ يعيد نفسه وعلى أن الإنسانية لا تتعلم من الأخطاء المرتكبة في السابق.
ويتعاون دولي مع شعراء وكتاب مسرحيات وموسيقيين وفنانين. والهدف هو مساعدة الأشخاص على فهم آثار الحرب - لا سيما على الأشخاص الفارين.
ويقول دولي: "لا أعتقد بأنني تعرضت للإصابة بسبب لغم أرضي أو طالبان، بل بسبب الكره والجهل. والطريقة الوحيدة التي أتقنها لمواجهة ذلك هي التصوير".
ويقول بأن عمله مهم أكثر من أي وقت مضى: "كل ما أريده هو أن أروي قصص هؤلاء الأشخاص الذين ألتقي بهم على أمل أن نتمكن من النظر إليهم على أنهم أكثر من لاجئين وأكثر من مجرد أرقام. فهذه ليست صوراً للاجئين بل قصص عن الإنسانية".